فصل: ذكر الأفلاك وهيئاتها والنجوم وتأثيراتها والعناصر وتراكيبها وكيفية أفعالها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التنبيه والإشراف (نسخة منقحة)




.ذكر الغرض من هذا الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
قال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي أما بعد فإنا لما صنفنا كتابنا الأكبر في أخبار الزمان ومن أباده الحدثان من الأمم الماضية والأجيال الحالية والممالك الدائرة، وشفعناه بالكتاب الأوسط في معناه ثم قفوناه بكتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر في تحف الأشراف من الملوك وأهل الدرايات ثم أتلينا ذلك بكتاب فنون المعارف، وما جرى في الدهور السوالف وأتبعناه بكتاب ذخائر العلوم، وما كان في سالف الدهور وأردفناه بكتاب الاستذكار لما جرى في سالف الأعصار ذكرنا في هذه الكتب الأخبار عن بدء العالم والخلق وتفرقهم على الأرض والممالك والبر والبحر والقرون البائدة، والأمم الخالية الدائرة الأكابر كالهند والصين والكلدانيين- وهم السريانيون- والعرب والفرس واليونانيين والروم وغيرهم، وتاريخ الأزمان الماضية والأجيال الخالية والأنبياء وذكر قصصهم وسير الملوك وسياساتهم ومساكن الأمم وتباينها في عبادتها، واختلافها في آرائها وصفة بحار العالم وابتدائها وانتهائها واتصال بعضها ببعض وما لا يتصل منها وما يظهر فيه المد والجزر وما لا يظهر، ومقاديرها في الطول والعرض وما يتشعب من كل بحر من الخلجان ويصب إليه من كبار الأنهار وما فيها من الجزائر العظام وما كان من الأرض براً فصار بحراً، وبحراً فصار براً على مرور الأزمان وكرور الدهور، وما قاله حكماء الأمم في كيفية شبابها وهرمها وعلل جميع ذلك، والأنهار الكبار ومبادئها ومصابها ومقادير مسافاتها على وجه الأرض من ابتدائها إلى انتهائها، والأخبار عن شكل الأرض وهيئتها وما قالته حكماء الأمم من الفلاسفة وغيرهم في قسمتها، والربع المسكون منها وحدبها وأنجادها وأغوارها وتنازع الناس في كيفية ثباتها وتأثيرات الكواكب في سكانها، واختلاف صورهم وألوانهم وأخلاقهم. ووصف الأقاليم السبعة وأطوالها وعروضها وعامرها وغامرها ومقادير ذلك، ومجاري الأفلاك وهيئاتها واختلاف حركاتها، وأبعاد الكواكب وجرامها واتصالها وانفصالها وكيفية مسيرها وتنقلها في أفلاكها ومضاداتها إياها في حركاتها ووجوه تأثيراتها في عالم الكون والفساد التي بها قوام الأكوان، وهل أفعالها على المماسة أم على المباينة عن إرادة وقصد أم غير ذلك وكيف ذلك وما سببه؟ وهل حركات الأفلاك والنجوم جميعاً طباع أم اختيار؟ وهل للفلك علة طبيعية فاعلة في الأشياء المعلولة التي هو مشتمل عليها ومحيط بها والنواحي والآفاق من الشرق والغرب والشمال والجنوب. وما على ظهر الأرض من عجيب البنيان، وما قاله الناس في مقدار عمر العالم ومبدئه وغايته ومنتهاه، وعلة طول الأعمار وقصرها وآداب الرياسة وضروب أقسام السياسة المدنية؛ الملوكية منها والعامية، مما يلزم الملك في سياسة نفسه ورعيته. ووجوه أقسام السياسة الديانية، وعدد أجزائها، ولأية علة لابد للملك من دين، كما لابد للدين من ملك. ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، ولم وجب ذلك وما سببه؟ وكيف تدخل الآفات على الملك، وتزول الدول، وتبيد الشرائع والملل؟ والآفات التي تحدث في نفس الملك والدين، والآفات الخارجة المعترضة لذلك وتحصين الدين والملك، وكيف يعالج كل واحد منهما بصاحبه إذا اعتل من نفسه أو من عارض يعرض له، وماهية ذلك العلاج، وكيفيته وأمارات إقبال الدول. وسياسة البلدان والأديان والجيوش على طبقاتهم ووجوه الحيل والمكايد في الحروب ظاهراً وباطناً، وغير ذلك من أخبار العالم وعجائبه وأخبار نبينا صلّى الله عليه وسلّم ومولده. وما ظهر في العالم من الآيات والكوائن والأحداث المنذرات بظهوره قبل مولده؛ من أخبار الكهان وغيرهم وما أظهر الله سبحانه على يديه من الدلائل والعلامات، وجوامع المعجزات. ومنشئه ومبعثه وهجرته ومغازيه وسراياه وسواربه ومناسره إلى وفاته، والخلفاء بعده والملوك والغرر من أخبارهم وما كان من الكوائن والأحداث والفتوح في أيامهم، وأخبار وزرائهم وكتابهم إلى خلافة المطيع.
وذكرنا من كان في كل عصر من حملة الأخبار، ونقلة السير والآثار، وطبقاتهم من عصر الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من فقهاء الأمصار وغيرهم من ذوي الآراء والنحل والمذاهب والجدل بين فرق أهل الصلاة ومن مات منهم في سنة إلى هذا الوقت المؤرخ.
وذكرنا في كتاب نظم الأعلام في أصول الأحكام وكتاب نظم الأدلة، في أصول الملة وكتاب المسائل والملل. في المذاهب والملل تنازع المتفقهين في مقدمات أصول الدين والحوادث التي اختلف فيها آراؤهم وما يذهب إليه من القول بالظاهر وإبطال القياس والرأي والاستحسان في الأحكام إذ كان الله جل وعز قد أكمل الدين وأوضح السبيل وبين للمكلفين ما يتقون في آياته المنزلة وسنن رسوله المفصلة التي زجرهم بها عن التقليد ونهاهم عن تجاوز ما فيها من التحديد، وما اتصل بذلك من الكلام في أصول الفتوى والأحكام؛ العقليات منها السمعيات وغير ذلك من فنون العلوم، وضروب الأخبار؛ مما لم تأت الترجمة على وصفه، ولا انتظمت ذكره.
رأينا أن نتبع ذلك بكتاب سابع مختصر نترجمه بكتاب التنبيه والإشراف وهو التالي لكتاب الاستذكار، لما جرى في سالف الأعصار نودعه لمعا من ذكر الأفلاك وهيئآتها والنجوم وتأثيراتها والعناصر وتراكيبها، وكيفية أفعالها، والبيان عن قسمة الأزمنة وفصول السنة، وما لكل فصل من المنازل والتنازع في المبتدإ به منها.
والاصطقصات وغير ذلك والرياح ومهابها وأفعالها وتأثيراتها والأرض وشكلها وما قبل في مقدار مساحتها وعامرها وغامرها والنواحي والآفاق وما يغلب عليها وتأثيراتها في سكانها، وما اتصل بذلك وذكر الأقاليم السبعة وقسمتها وحدودها وما قيل في طولها وعرضها، وقسمة الأقاليم على الكواكب السبعة- الخمسة والنيرين- ووصف الإقليم الرابع وتفضيله على سائر الأقاليم، وما خص به ساكنوه من الفضائل التي باينوا بها سكان غيره منها، وما اتصل بذلك من الكلام في عروض البلدان وأطوالها، والأهوية وتأثيراتها وغير ذلك وذكر البحار وأعدادها وما قيل في أطوالها وأعراضها واتصالها وانفصالها ومصبات عظام الأنهار إليها وما يحيط بها من الممالك وغير ذلك من أحوالها وذكر الأمم السبع في سالف الأزمان، ولغاتهم وآرائهم. ومواضع مساكنهم وما بانت به كل أمة من غيرها. وما اتصل بذلك ثم نتبع ذلك بتسمية ملوك الفرس الأول، والطوائف، والساسانية على طبقاتهم وأعدادهم ومقدار ما ملكوا من السنين وملوك اليونانيين وأعدادهم، مقدار ملكهم، وملوك الروم على طبقاتهم من الحنفاء، وهم الصابئون والمتنصرة، وعدتهم وجملة ما ملكوا من السنين. وما كان من الكوائن والأحداث العظام الديانية والملوكية في أيامهم وصفة بنودهم وحدودها ومقاديرها وما يتصل منها بالخليج وبحري الروم والخزر وما اتصل بذلك من اللمع المنبهة على ما تقدم من تأليفنا فيما سلف من كتبنا وذكر الأفدية بين المسلمين والروم إلى هذا الوقت وتواريخ الأمم، وجامع تأريخ العالم والأنبياء والملوك من آدم إلى نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم. وحصر ذلك وما اتصل به ومعرفة سني الأمم الشمسية والقمرية وشهورها، وكبسها ونسيئها، وغير ذلك من أحوالها وما اتصل بذلك من التنبيهات على ما تقدم جمعه وتأليفه، وذكر مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم ومبعثه وهجرته وعدد غزواته وسراياه وسواربه وكتابه ووفاته والخلفاء بعده والملوك وأخلاقهم وكتابهم ووزرائهم وقضاتهم وحجابهم ونقوش خواتيمهم وما كان من الحوادث العظيمة الديانية والملوكية في أيامهم وحصر تواريخهم إلى وقتنا هذا وهو سنة 345 للهجرة في خلافة المطيع منبهين بذلك على ما قدمنا ذكره من كتبنا.
وإنما اقتصرنا في كتابنا هذا على هذه الممالك لعظم ملك ملوك الفرس وتقادم أمرهم، واتصال ملكهم، وما كانوا عليه من حسن السياسة وانتظام التدبير، وعمارة البلاد، والرأفة بالعباد، وانقياد كثير من ملوك العالم إلى طاعتهم وحملهم إليهم الأتاوة والخراج، وإنهم ملكوا الإقليم الرابع؛ وهو إقليم بابل أوسط الأرض وأشرف الأقاليم. وأن مملكتي اليونانيين والروم تتلوان مملكة فارس في العظم والعز، ولما خصوا به من أنواع الحكم والفلسفة والمهن العجيبة، والصنائع البديعة ولأن مملكة الروم إلى وقتنا هذا ثابتة الرسوم متسقة التدبير؛ وإن كان اليونانيون قد دخلوا في جملة الروم منذ احتووا على ملكهم كدخول الكلدانيين- وهم السريانيون سكان العراق- في جملة الفرس الأولى لغلبتهم عليهم.
فأحببنا أن لا نخلي كتابنا هذا من ذكرهم، وإن كنا قد ذكرنا سائر الممالك التي على وجه الأرض وما أزيل منها ودثر، وما هو باق إلى هذا الوقت وأخبار ملوكهم وسياساتهم وسائر أحوالهم فيما سميناه من كتبنا.
على أن نعتذر من سهو إن عرض في تصنيفنا مما لا يسلم منه ما لحقته غفلة الإنسانية، وسهوة البشرية، ثم ما دفعنا إليه من طول الغربة ومن بعد الدار، وتواتر الأسفار طوراً مشرقين وطوراً مغربين كما قال أبو تمام:
خليفة الخضر من يربع على وطن ** في بلدة فظهور العيس أوطاني

بالشأم قومي وبغداد الهوى وأنا ** بالرقتين وبالفسطاط إخواني

وكقوله أيضاً:
فغربت حتى لم أجد ذكر مشر ** وشرقت حتى قد نسيت المغاربا

خطوبٌ إذا لاقيتهن رددنني ** جريحاً كأني قد لقيت الكتائبا

ونحن آخذون فيما به وعدنا، وله قصدنا. وبالله نستعين، وإياه نسأل التوفيق والتسديد.

.ذكر الأفلاك وهيئاتها والنجوم وتأثيراتها والعناصر وتراكيبها وكيفية أفعالها:

فلنبدأ بذكر الفلك الذي نبهنا الله سبحانه عليه، وأشار في نص الكتاب إليه لما فيه من عجائب حكمته ولطائف قدرته وخصائص التدبير وبدائع التركيب التي تدل بعجائب نظمها وغرائب تأليفها على وحدانية مبدعها وأزلية منشئها قال الله جل وعز: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌّ في فلك يسبحون}، أي في دائرة منها يكونون- إذ اسم الفلك يدل على الاستدارة في لغة العرب، والفلك السماء قال الله عز وجل: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. قال المسعودي: وقد تنازع الناس في الفلك ممن سلف وخلف فقال أفلاطون وثامسطيوس والرواقيون وعدة ممن تقدم عصر أفلاطون وتأخر عنه من الفلاسفة إنه من الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة إلا أن الغالب عليه النارية وليست ناريته محرقة إنما هي مثل النار الغريزية في الأبدان، وقال آخرون إنه من النار والهواء والماء دون الأرض.
وذهب أرسطاطاليس وأكثر الفلاسفة ممن تقدم عصره وتأخر عنه وغيرهم من حكماء الهند والفرس والكلدانيين إلى أنه طبيعة خامسة خارجة عن الطبائع الأربع ليست فيه حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة وأنه جسم مدور كري أجوف يدور على محورين وهما القطبان أحدهما رأس السرطان ومنتهى بنات نعش، من تلقاء نقطة الجنوب، والآخر رأس الجدي وفيه كواكب مثل بنات نعش من تلقاء نقطة الشمال وخط الاستواء في وسط الفلك وهو خط ما بين الشمال والجنوب وأوسع موضع فيه من نقطة المشرق إلى نقطة المغرب وهو منقسم بأربعة أرباع كل ربع منها تسعون درجة على خطين يتقاطعان على مركزه وهو موضع الأرض منه أحد الربعين وهو أحد القطبين نقطة الشمال وبإزائه نقطة الجنوب والربع الثالث نقطة المشرق وبإزائها نقطة المغرب، وهو يدور دوراناً طبيعياً دائماً وبدورانه ودوران الكواكب التي فيه تنفعل الكيفيات وانبسطت الأركان الأربعة وهي النار والماء والهواء والأرض فيتصل ركنان منها وهما النار والهواء بالعلو وركنان منها وهما الماء والأرض بالسفل ثم تتحرك هذه الكيفيات بتحرك الجواهر العلوية والأجسام السمائية على حسب مداراتها ومسيرها وحركاتها وتأثيراتها فيتحرك الركنان الأعليان بتحرك الكيفيات والركنان الأسفلان بتحرك الركنين الأعليين وتهب بذلك الرياح الاثنتا عشرة، فتنشأ السحائب وينزل القطر ويتصل بذلك الآثار العلوية ويتصل بالآثار العلوية الآثار السفلية الموجودة في الحيوان والنبات والبري والبحري. وفي الجواهر والمعادن حتى يكون التدبير في جميع هذه العوالم متسقاً مطرداً، متصلاً بعضه ببعض بالفعل، كامناً بعضه في بعض بالقوة.
حتى تظهر آثار الصنعة، وأمارات الحكمة، ودلائل الربوبية، وترتبط المعلولات بعللها، وتشهد للصانع بصنعته، وبدائع حكمته.
وجعل عز وجل الفك الأعلى، وهو فلك الاستواء، وما يشتمل عليه من طبائع التدوير، فأولها كرة الأرض يحيط بها فلك القمر ويحيط بفلك القمر فلك عطارد، وبفلك عطارد فلك الزهرة، وبفلك الزهرة فلك الشمس، وبفلك الشمس فلك المريخ، وبفلك المريخ فلك المشتري، وبفلك المشتري فلك زحل وبفلك زحل فلك الكواكب الثابتة، وبفلك الكواكب الثابتة فلك البروج وبفلك البروج فلك الاستواء وهو المحيط بها والمحرك لها.
ومن ذوي المعرفة بعلم الأفلاك والنجوم من بعد فكل الاستواء، وفلك البروج الثابتة فلكاً واحداً؛ لما يرى من تجاذبهما، واتفاق أقطارهما ومراكزهما والأرض في وسط الجميع مركز له كالنقطة في وسط الدائرة والفلك متجاف عنها من حيث ما أحاط بها بميل ما نحو وجهها الذي يكون عليها حيثما كانت وهو أعلى الفلك على سمت رأسك فذلك نصف قطر الفلك الأعلى أخذ منه نصف قطر الأرض، وهو يدور عليها من المشرق إلى المغرب؛ على أوسع موضع فيه على نقطتين وهميتين متقابلتين في جنبي كرته.
إحداهما القطب الشمالي وهو على شمال مستقبل المشرق، والثانية القطب الجنوبي؛ وهو على يمين مستدير المغرب، ويسميان المحورين تشبيها بقطب الرحى ولهذا الفلك نطاق يفصل كرته في متوسط ما بين قطبيه، ويفصل محاذاته كرة الأرض بنصفين. وهذا النطاق يسمى فلك معدل النهار، لاستواء الليل والنهار فيه، ويسمى الفلك المستقيم لاستواء مطالعه ومغاربه، واستقامة مدرجه في أرباع الفلك وما بينها على نظام واحد، وكل جزء من أجزاء هذا النطاق وإن اتسع فإنه كيفما انحدر في بسيطي الكرة إلى المحورين قل عرضه ودق حتى تجتمع أجزاء الفك كلها من فوق الأرض وتحتها في نقطة المحور.
ومن كان تحت هذا النطاق فإنه ينظر المحورين يطوفان على أفق المواضع والفلك يدور منتصباً فوق رأسه.
وأكثر هذه الأفلاك مسيرها من المشرق إلى المغرب موافقة في مسيرها لمسير الفلك الأعلى. ومنها ما يكون مسيره موافقاً لمسير الكواكب من المغرب إلى المشرق، فما كان من الفلك آخذاً من الشمال إلى الجنوب سمي العرض، وما كان آخذاً من المغرب إلى المشرق سمي الطول.
والأرض من الفلك بمنزلة النقطة من الدائرة بعدها من كل نقطة من النقط الأربع التي ينقسم الفلك عليها بعد واحد، ومن مركزها إلى كل نقطة تسعون درجة، وقطر الدائرة مائة وثمانون درجة وهي تنقسم في نفسها مثل هذه الأربع نقط من الشمال والجنوب والمشرق والمغرب، إلا أنها غير ذات نسبة من الفلك كما أن الفلك لا نسبة له من الدائرة والجرم الذي من نهاية حضيض فلك القمر إلى نهاية العالم في العلو طبيعة خامسة ليست بحارة ولا باردة ولا رطبة ولا يابسة ولا مركبة من شيء من هذه الطبائع الأربع. وهذا الجسم هو الجسم الفلكي، ونهايته مما يلينا أعني كصورة باطن كرة والعناصر أربعةٌ نار وهواء وماء وأرض، فاثنان من هذه العناصر حاران هما النار والهواء، وهما يتحركان بطبعهما صعداً إلى أن أسبقهما إلى العلو النار؛ فهي طافية على الهواء، والنار يابسة والهواء رطب واثنان باردان وهما الماء والأرض وهما يتحركان بطبعهما سفلاً عند حركتهما، إلا أن أسبقهما إلى السفل الأرض، والأرض يابسة. والماء رطب.
فقد حصل بما ذكرنا أن الحرارة تفعل الحركة صعداً، وأن البرد يفعل الحركة سفلا، وأن اليبس يفعل السبق إلى الموضع الأخص بكر واحد منهما وأن الرطوبة تفعل الثقل في الحركة، فما كانت حركته صعداً سموه خفيفاً، وما كانت حركته سفلاً سموه ثقيلاً.
وأنه لا فراغ في جرم العالم، وأن الأجسام إذا حميت احتاجت إلى مواضع أوسع من المواضع التي كانت فيها، فما تحدثه الحرارة فيها من تباعد نهاياتها عن مركزها، وأنها إذا بردت صارت بضد ذلك لأن البرد يفعل تقارب نهايات الأجسام من مركزها، فتحتاج إلى مواضع أصغر من مواضعها وأن الحرارة والبرودة تتبادل المواضع فإذا كان ظهر الأرض حاراً كان باطنها بارداً، على ما تكون عليه السراديب وغيرها من أعماق الأرض وأعوارها في نهار الصيف من البرد، وإذا كان ظاهرها بارداً كان باطنها حاراً على ما عليه السراديب وغيرها في ليالي الشتاء، وأن الحرارة ترفع من كل جسم رطب لطيفه ولا أولا حتى تجف أرضيته فيتحجر أو تفنى جملته وأن الشمس إذا كان مسيرها في الميل الشمالي عن معدل النهار حمي الهواء في ناحية الشمال وبرد الهواء الجنوبي: فيجب من ذلك أن ينقبض الهواء الجنوبي ويحتاج إلى موضع أصغر، ويتسع الهواء الشمالي، ويحتاج إلى موضع أوسع، إذ لا فراغ في العالم، فبالواجب أن يكون أكثر رياح الصيف عند من هو في ناحية الشمال شمالية لأن الهواء من عندهم يتحرك إلى ناحية الجنوب؛ إذ ليس الريح شيئاً غير حركة الهواء وتموجه، وكذلك يجب أن يكون أكثر رياح الشتاء جنوبية لتحرك الهواء إلى ناحية الشمال لمسير الشمس في الشتاء في الميل الجنوبي وما أبين للحس من مسير الشمس في الشتاء في الجنوب وفي الصيف في الشمال، لما نراه في الشتاء من طول ظلال المظلات، وبعد جرم الشمس في سمت رءوسنا من خط نصف النهار قال المسعودي: وفيما ذكرنا من قسمة الأفلاك وتراكبها وما يلينا من الكواكب- النيرين والخمسة- تنازع بين الأسلاف والأخلاف.
من ذلك ما ذكره أبطلميوس القلوذي في كتاب المجسطي، وفي كتابه في الهيئة أنه لم يظهر له أن الزهرة وعطارد فوق الشمس أو دونها.
وحكى يحيى النحوي وهو المعروف بالحريص الاسكندراني في كتابه الذي دل فيه على أن العالم محدث ونقضه لكتاب برقلس في قدمه ورده على أفلاطون وأرسطاطاليس وأفلوطرخس وغيرهم من القائلين بقدمه أن أفلاطون كان يزعم أن فلك القمر أدنى الأفلاك إلينا وفلك الشمس يليه ثم فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم كذلك على ما رتبها الباقون.
وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا السالفة تنازع الفلاسفة وغيرهم من حكماء الأمم في هيئة الأفلاك وتراكيبها والنجوم وتأثيراتها في هذا العالم الأرضي وما يمين العالم وما شماله، وما خلفه وأمامه وتحته وفوقه.
وما ذكره أرسطاطاليس في المقالة الثانية من كتاب السماء والعالم عن شيعة فيثاغورث في ذلك وما ذهب إليه من أن للسماء يميناً وشمالاً، وأماماً وخلفاً، وفوقاً وأسفل.
فيمنة السماء الجهة الشرقية، ويسرتها المغربية، وأعلاها القطب الجنوبي وهو فوق القطب الشمالي وهو أسفل وما اتصل بذلك.
قال المسعودي: وأكثر من نشاهده من فلكية زماننا ومنجمي عصرنا مقتصرون على معرفة الأحكام- تاركون للنظر في علم الهيئة، ذاهبون عنها- وصناعة التنجيم التي هي جزء من أجزاء الرياضات، وتسمى باليونانية الاصطرونوميا تنقسم قسمة أولية على قسمين إحدهما العلم بهيئة الأفلاك وتراكيبها ونصبها وتأأليفها والثاني العلم بما يتأثر عن الفلك فليس العلم الثاني وهو العلم بتأثيرات الفلك وما يتوجب من الأحكام بمستغن عن العلم الأول، الذي هو علم الهيئة إذ التأثيرات واقعة بالحركات وتبدل الأحوال، وإذا وقع الجهل بالحركات وقع الجهل بالتأثيرات فإذ ذكرنا جملاً وجوامع من علوم هيئة الأفلاك والنجوم، فلنذكر الآن الكلام في جمل من أقسام الزمان وفصوله والسنين والشهور والأيام وطباعها والاصطقصات ومرور الشمس في فلكها، وقطعها لبروجها، وما تحدثه في كل فصل، وما لحق بذلك.

.ذكر البيان عن قسمة الأزمنة وفصول السنة وما لكل فصل من المنازل والتنازع في المبتدأ به منها والاصطقصات وما اتصل بذلك:

الأزمنة أربعة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء؛ فالزمان الأول الربيع وهو طبيعة الدم حار رطب، مدته ثلاثة وتسعون يوماً وثلاث وعشرون ساعة وربع ساعة، وذلك من عشر تبقى من آذار إلى ثلاثة وعشرين يوماً تخلو من حزيران، وهو من نزول الشمس أول دقيقة من الحمل، وهو الاستواء الربيعي إلى دخولها أول دقيقة من السرطان، وهو المنقلب الصيفي والزمان الثاني: الصيف هو حار يابس، سلطانه المرة الصفراء؛ مدته اثنان وتسعون يوماً وثلاث وعشرون ساعة وثلث ساعة، وذلك من ثلاثة وعشرين يوماً تمضي من حزيران إلى أربعة وعشرين تمضي من أيلول، وهو من دخول الشمس أول دقيقة من السرطان إلى دخولها أول دقيقة من الميزان والزمان الثالث: الخريف، وهو بارد يابس، سلطانه المرة السوداء مدته ثمانية وثمانون يوماً، وسبع عشرة ساعة، وثلث خمس ساعة. وذلك من أربعة وعشرين يوماً تمضي من أيلول إلى اثنين وعشرين يوماً تخلو من كانون الأول وذلك من نزول الشمس أول دقيقة من الميزان، وهو الاستواء الخريفي إلى نزولها أول دقيقة من الجدي، وهو المنقلب الشتوي والزمان الرابع: الشتاء، وهو بارد رطب سلطانه البلغم، مدته تسعة وثمانون يوماً وأربع عشرة ساعة من تسع تبقى من كانون الأول إلى أحد وعشرين يوماً تخلو من آذار، وذلك من دخول الشمس أول دقيقة من الجدي إلى نزولها أول دقيقة من الحمل.
فانقسام فصول السنة بالأزمان الأربعة إنما هو بحركة الشمس في الجملة قال المسعودي: فقد تبين بما ذكرنا أن مدة زمان الربيع مسير الشمس في ثلاثة أبراج وهي الحمل والثور والجوزاء. ومدة زمان الصيف مسير الشمس في ثلاثة أبراج هي السرطان والأسد والسنبلة، ومدة زمان الخريف مسير الشمس في ثلاثة أبراج هي الميزان والعقرب والقوس، ومدة زمان الشتاء مسير الشمس في ثلاثة أبراج وهي الجدي والدلو والحوت فما أعجب وأتقن اشتباك أمر العالم بعضه ببعض ونظمه إنا إذا خرجنا من ربع الصيف إلى ربع الخريف؛ فإنا نخرج من ربع حار يابس إلى ربع بارد يابس فاختلف الربعان في الحر والبرد، واتفقا في اليبس. وإذا خرجنا من ربع الخريف إلى ربع الشتاء خرجنا من ربع بارد يابس إلى ربع بارد رطب، فاختلفا في اليبس واتفقا في البرد. وإذا خرجنا من ربع الشتاء إلى ربع الربيع خرجنا من ربع بارد رطب إلى ربع حار رطب فاختلفا في الحر واتفقا في الرطوبة فقد تبين أنا لم نخرج من ربع حار رطب إلى ربع بارد يابس ولا من ربع بارد رطب إلى ربع حار يابس فتأمل حكمة البارئ جل وعز في نظمه الاستقصات الأربعة في العالم السفلي أعني الأرض والماء والهواء والنار فإنك تجدها على هذا الترتيب مؤلفة تجد الأرض وهي باردة يابسة ثم الماء وهو بارد رطب ثم الهواء وهو حار رطب ثم النار وهي حارة يابسة، فالماء الذي يلي الأرض يوافقها في البرودة ويختلفان في الرطوبة واليبس، والهواء الذي يلي الماء يوافقه في الرطوبة يختلفان في الحر والبرد، والنار التي تلي الهواء توافقه في الحر ويختلفان في اليبس والرطوبة وكذلك أيضاً الزمان فإنه مقسوم بأربعة أقسام فقسم ربيعي دموي هوائي، وقسم صيفي صفراوي ناري، وقسم خريفي سوداوي أرضي، وقسم شتائي مائي.
فسبحان من دبر الأمور بحكمته وأتقنها بقدرته فلا يوجد فيها خلل، ولا يبين فيها زلل. إذ كان الإهمال لا يأتي بالصواب والتضاد لا يأتي بالنظام.
وقد شبه أبطلميوس فصل الربيع بفصل الطفولية وفصل الصيف بالشباب والخريف بالكهولة والشتاء بالشيخوخة وقد تنازع من تقدم وتأخر من حكماء الأمم وفلاسفتهم في المبتدإ به من فصول السنة ومداخلها وأوائلها ومددها، فمنهم من اختار تقديم الفصل الربيعي وصيره أول السنة لأنه الوقت الذي يبتدئ النهار فيه بالزيادة وأنه مع ذلك رطب والرطوبة ولية بأن تكون ابتداء الأشياء الكائنة ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الصيفي لأنه الوقت الذي فيه كمال طول النهار وأن مدة النيل بمصر فيه يكون وفيه تطلع الشعرى اليمانية التي تقطع السماء عرضاً ومنهم من اختار تقديم الاعتدال الخريفي لأن جميع الثمار فيه تستكمل والبذور فيه تبذر وإنما سمي الخريف لأن الثمار تخترف فيه أي تجتنى والعرب تسميه الوسمي بالمطر الذي يكون فيه وذلك أن أول المطر يقع على الأرض وهي بعيدة العهد بالرطوبة وقد يبست بالصيف فتسميه بهذا الاسم لأنه يسم الأرض، وهم يبتدئون من الأزمان بهذا الفصل لأن المطر الذي به عيشهم فيه يبتدئ، ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الشتوي لأن النهار فيه يبتدئ باسترداد ما نقص منه والازدياد في طوله وقد ذكر ذلك أبطلميوس القلوذي في كتابه المعروف بالأربع مقالات. وفي كتابه في الأنواء الذي ذكر فيه أحوال أيام السنة كلها وما يحدث فيها من طلوع الكواكب وغروبها، فإذ ذكرنا الأخبار عن قسمة الأزمنة وفصول السنة وما اتصل بذلك فلنذكر الرياح ومهابها وما لحق بذلك.